فصل: سئل عن هذا القرآن الذي نتلوه هو كلام الله الذي تكلم به

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


/  ما تقول السادة الأعلام أئمة الدين ـ رضي الله عنهم أجمعين‏:‏

هل هذا القرآن الذي نتلوه القائم بنا حين التلاوة هو كلام الله الذي قام به حين تكلم به وكان صفة له أم لا‏؟‏ وإذا كان كلامه، فهل إذا تلوناه وقام بنا يطلق عليه كلام الله وصفته‏؟‏ أم يطلق عليه كلام الله دون صفته‏؟‏ أم في ذلك تفصيل يجب بيانه‏؟‏ وهل إذا قام بنا كان منتقلا عن الله بعد أن قام به‏؟‏ أم يكون قائمًا بنا وبه معًا‏؟‏ أم الذي قام بنا يكون عبارة عن كلام الله، أو حكاية عنه، ويكون إطلاق كلام الله عليه مجازًا‏؟‏ وهل يكون صفة لنا محدثة قامت بمحدث؛ إذ القديم لا يقوم بمحدث، والمحدث لا يكون قديمًا، وهل ‏[‏التلاوة‏]‏ هي نفس المتلو أم لا‏؟‏ أفتونا مأجورين‏.‏

فأجاب شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس ابن تيمية ـ قدس الله روحه‏:‏

الحمد لله رب العالمين، هذه المسألة جوابها يحتمل البسط، ويمكن فيه الاختصار، ثم بسط الجواب بعض البسط، فأما الجواب المختصر فإنه يقال‏:‏

جواب / هذه المسألة مبني على ‏[‏مقدمة‏]‏، وهي أن يعرف الإنسان معنى قول القائل لما بلغه عن غيره‏:‏ هذا كلام ذلك الغير؛ فإن المحدث إذا حدث عن النبي صلى الله عليه وسلم بقوله‏:‏ ‏(‏إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى‏)‏، أو قوله‏:‏ ‏(‏الحلال بين، والحرام بين، وبين ذلك أمور مشتبهة لا يعلمها كثير من الناس‏)‏، أو قوله‏:‏‏(‏من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رَدٌّ‏)‏ ونحو ذلك‏.‏

فإنه من المعلوم أن هذا كلام النبي صلى الله عليه وسلم، تكلم به بلفظه ومعناه، فهو الذي أخبر بمعناه، وهو الذي ألف حروفه وتكلم بها بصوته‏.‏ ثم المبلغ بذلك عنه بلّغ كلامه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏نَضَّر الله امرأ سمع منا حديثًا، فبلغه كما سمعه، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه‏)‏، فدعى بالنضرة لمن سمع منه حديثًا فبلغه كما سمعه‏.‏ فبين أن الحديث المسموع منه هو الحديث المبلغ عنه، مع العلم بأن المبلغ عنه بلغه بأفعاله وأصواته، وأن الصوت المسموع منه هو صوته لا صوت النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم تكلم بذلك الحديث بصوته المختص به، فالمبلغ عنه هو حديثه الذي سمع منه، وليس الصوت المسموع صوته‏.‏

فإذا قال القائل‏:‏ هل هذا الحديث الذي قرأه المحدث القائم به / حين القراءة هو كلام النبي صلى الله عليه وسلم، الذي قام به حين تكلم به وكان صفة له أم لا‏؟‏ قيل له‏:‏ إن كنت تريد‏:‏ أن نفس الحديث من حيث هو هو كلام النبي صلى الله عليه وسلم، الذي قام به حين تكلم به كان صفة له، فنعم‏.‏ هذا الحديث من حيث هو هو كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كنت تريد‏:‏ أن ما اختص بالقارئ من حركاته وأصواته هو القائم بالرسول، فليس كذلك‏.‏

وكذلك إن أردت‏:‏ أن نفس ما اختص به الرسول من حركاته وأصواته، والصفات القائمة بنفسه هي بعينها انتقلت عن الرسول‏.‏ وقامت بالقارئ، فليس كذلك‏.‏

وقول القائل‏:‏ هذا هو هذا وليس هو إياه، وهذا هو عين هذا وليس هو عينه، لفظ فيه إجمال؛ فإن من نقل لفظ غيره، كما سمعه وكتبه في كتاب، فإنه يقول‏:‏ هذا كلام فلان بعينه، وهذا نفس كلامه، وهذا عين كلامه‏.‏ ومراده أن نفس ما قاله هو الذي بلغه عنه، وهو المكتوب في الكتاب، لم يزد فيه ولم ينقص منه‏.‏

فإذا قال القائل لما سمع من القارئ‏:‏ هذا عين كلام الله، أو هذا كلام الله بعينه، أو هذا نفس كلام الله، أو قال لما بين لوحي المصحف‏:‏ هذا كلام الله بعينه، وهذا عين كلام الله ـ كان صادقًا، / ومن أنكر ذلك بهذا الاعتبار كان مقتضى قوله‏:‏ أن القرآن زيد فيه ونقص؛ ولهذا كان الناس مطبقين على أن ما بين اللوحين كلام الله، والإنكار على من نفي ذلك‏.‏

وقد يقال لكلام المتكلم المسموع منه‏:‏ هذا كلام زيد بعينه، وهذا عين كلام زيد، وهذا نفس كلام زيد، بمعنى أنه مسموع منه بلا واسطة، بحيث يسمـع صـفة ذلك المتكلم المختص به بذلك، كما قال أيوب السختياني‏:‏ كان الحسن يتكلم بكلام فيأتي مثل الدر، فتكلم به بعده قوم فجاء مثل البَعْر‏.‏ والمتكلم بالكلام من البشر له صوت يخصه، ونغمة تخصه،كما له سجية تخصه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 22‏]‏‏.‏ وله أيضًا ـ إن كان أمرًا أو نهيًا أو خبرًا ـ مــن الحـال والصفة والكيفية ما يختص به، فإذا سمع كلامه بالصفة المختصة به، وقيل‏:‏ هذا كلامه بعينه، وهذا عين كلامه، ونفس كلامه، وأدخلت الصفة المختصة به في مسمى العين والنفس، لم يصدق هذا عليه، إذا كان مرويا‏.‏

لكن لما كان الناس في زماننا يعلمون أن أحدًا لا يسمع كلام النبي صلى الله عليه وسلم، لم يسبق هذا المعنى إلى ذهن أحد، بل كل أحد يعلم أنا إذا قلنا‏:‏ سمعنا كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا كلام النبي صلى الله عليه وسلم بعينه، وهذا عين كلامه، فإنما المراد به / المعنى الأول، وهو كونه مسموعًا من المبلغ عنه، لا أنه مسموع منه، ولا أن تكلمه الذي يختص بالكلام وجد‏.‏

وإذا كان هذا في كلام النبي صلى الله عليه وسلم، فكلام الله ـ سبحانه ـ أولى بذلك، فإن الناس يعلمون أن أحدًا منهم لم يسمعه من الله،، كما سمع موسى كلام الله من الله، بل يعلمون أن كلام الله إنما سمع من المبلغين له، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ‏}‏‏[‏المائدة‏:‏67‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏28‏]‏، وقال نوح‏:‏ ‏{‏وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏61، 62‏]‏‏.‏

وفي سنن أبي داود عن جابر‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول بالموقف‏:‏ ‏(‏ألا رجل يحملني إلى قومه لأبلغ كلام ربي‏؟‏ فإن قريشًا منعوني أن أبلغ كلام ربي‏)‏‏.‏

فلما كان هذا مستقرًا في قلوب المستمعين علموا أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ‏}‏‏[‏التوبة‏:‏6‏]‏، إنما هـو سماعه من المبلغين له، لا سماعه منه، وأن هذا السماع ليس كسماع موسى كلام الله من الله؛ فإن موسى سمعه منه بلا واسطة، ونحن إذا سمعنا كلام النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة لم يكن كسمع الصحابة / من النبي صلى الله عليه وسلم، مع أنهم يبلغون حديثه كما سمعوه، مع العلم بأنهم لم يحكوا صوت النبي صلى الله عليه وسلم، فلا هي أصواتهم صوته، ولا مثل صوته، مع أنهم بلغوا حديثه كما سمعوه‏.‏ فالقرآن أولى أن يكون جبريل بلغه كما سمعه، والرسول بلغه كما سمعه، والأمة بلغته كما سمعته، وأن يكون ما بلغته هو ما سمعته، وهو كلام الله ـ عز وجل ـ في الحالين، مع أن الرسول بشر من جنس البشر، والله تعالى‏:‏‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ‏}‏‏[‏الشورى‏:‏11‏]‏‏.‏

والتفاوت الذي بين صفات الخالق والمخلوق أعظم من التفاوت بين أدنى المخلوقات وأعلاها، فإذا كان سَمْع التابعين لكلام النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة ليس كسمع الصحابة من النبي صلى الله عليه وسلم، فسماع كلام الله من الله أبعد من مماثلة سماع شيء لشيء من المخلوقات‏.‏

والقائل إذا قال لما سمعه من المبلغ عن الرسول‏:‏ هذا كلام الرسول أو هذا كلام صواب، أو حق أو صحيح، أو هذا حديث رسول الله أداه كما سمعه، أو هذا نفس كلام الرسول أو عينه فإنما قصد إلى مجرد الكلام، وهو ما يوجد حال سماعه من المبلغ، والمبلغ عنه لم يشر إلى ما يختص بأحدهما، فلم يشر إلى مجرد صوت المبلغ،ولا مجرد صوت المبلغ عنه، ولا إلى حركة أحد منهما، بل هناك أمر يتحد في الحالين، /وهذا أمر يتعدد يختص كل منهما منه بما يخصه‏.‏

فإذا قيل‏:‏ هذا هو كلامه، كانت الإشارة إلى المتحد المتفق عليه بينهما‏.‏ وإذا قيل‏:‏ هذا صوته كانت الإشارة إلى المختص المتعدد، فيقال‏:‏ هذا صوت غليظ، أو رقيق، أو حسن، أو ليس حسنًا، كما في الحديث الذي في سنن ابن ماجه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏لَلَّهُ أشد أذنا إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب الْقَيْنَة إلى قينته‏)‏، وفي الحديث المشهور‏:‏ ‏(‏زيِّنُوا القرآن بأصواتكم‏)‏‏.‏ قال أحمد‏:‏ يحسنه بصوته ما استطاع‏.‏ فبين الإمام أحمد أن الصوت صوت القارئ، مع أن الكلام كلام البارئ‏.‏ وهذا كما أنه معلوم من تبليغ كلام الله ورسوله، فكذلك في تبليغ كلام كل أحد، فإذا سمع الناس منشدًا ينشد‏:‏

ألا كل شيء ما خلا الله باطل

قالوا‏:‏ هذا شعر لَبيد، لفظه ومعناه، وهذا كلام لبيد، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏‏(‏أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد ألا كل شيء ما خلا الله باطل‏)‏‏.‏

ولو قال المنشد‏:‏ هذا شعري أو كلامي لكذبه الناس، كما يكذبونه لو قال‏:‏ هذا صوت لبيد، وإذا قال‏:‏ هذا لفظ لبيد بالمعنى المعروف ـ / وهو أن هذا الكلام الملفوظ هو كلامه بنظمه وتأليفه ـ لصدقه الناس‏.‏ وإن قال‏:‏هذا لفظه بمعنى أن هذا بلفظه، كذبه الناس؛ فإن ‏[‏اللفظ‏]‏ يراد به المصدر، ويراد به الملفوظ، وكذلك ‏[‏التلاوة‏]‏ و‏[‏القراءة‏]‏ يراد بذلك المصدر، ويراد به الكلام نفسه الذي يقرأ ويتلى‏.‏

وأصل هذا‏:‏ أن تعلم الجامع والفارق بين سماع الكلام من المتكلم به، ومن المبلغ له عن المتكلم به، وأنه كلامه في الحالين، لكن هو في أحدهما مسموع منه سماعًا مطلقًا بغير واسطة، وفي الأخرى مسموع منه سماعًا مقيدًا بواسطة التبليغ، كما أنك تارة ترى الشمس والقمر والكواكب بطريق المباشرة، فلا تحتاج في ذلك إلى واسطة، وتارة تراها في ماء أو مرآة ونحو ذلك، تراها بواسطة ذلك الجسم الشفاف، فهي المقصودة بالرؤية في الموضعين، لكن في إحدى الحالتين رأيتها نفسها بالمباشرة رؤية مطلقة، وفي الأخرى رأيتها رؤية مقيدة بواسطة‏.‏

وإذا قلت‏:‏ المرئي مثالها أو خيالها أو نحو ذلك‏.‏قيل‏:‏ أنت تجد الفرق بين رؤيتك خيال الشيء الذي هو ظله وتمثاله الذي هو صورته المصورة، وبين رؤيته في الماء والمرآة، إذا كان المرئي هنا، وإن كان لابد فيه من توسط خيال، فالمقصود بالرؤية هو الحقيقة، ولكن تختلف باختلاف المرآة، فيرى كبيرًا إن كانت المرآة كبيرة،وصغيرًا / إن كانت المرآة صغيرة، ومستطيلا إن كانت المرآة مستطيلة‏.‏ وهذا الكلام المروي عن الغير المقصود منه هو نفس كلام ذلك الغير،وإن كان لابد من توسط صوت هذا المبلغ؛ ولهذا يختلف باختلاف صوت المبلغ؛ فتارة يكون رقيقًا، وتارة غليظًا، وتارة مجهورًا به، وتارة مخافتًا به‏.‏

فإن قلت‏:‏ فهذا المسموع مثل كلام المروي عنه، أو حكاية كلام المروي عنه، كما أطلق ذلك طائفة من أهل الكلام من المعتزلة وغيرهم، كان إطلاق هذا خطأ، كما أنك إذا قلت لما تراه في الماء والمرآة‏:‏ هذا مثل الشمس ، أو هذا يحكي الشمس، كان إطلاق ذلك خطأ، قال تعالى‏:‏‏{‏قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ‏}‏الآية ‏[‏الإسراء‏:‏88‏]‏، فقد بين عجز الخلائق عن الإتيان بمثله، مع أنهم قادرون على تبليغه وتلاوته، فعلم أن هذا المسموع لا يقال‏:‏ إنه مثل كلام الله، كما سماه كلامه، لكنه كلامه بواسطة المبلغ لا بطريق المباشرة‏.‏

والله ـ سبحانه ـ قد فرق بين التكليمين، فقال تعالى‏:‏‏{‏وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء‏}‏‏[‏الشورى‏:‏51‏]‏ ففرق بين تكليمه من وراء حجاب ـ كما كلمه موسى ـ وبين تكليمه بإرساله رسولا يوحي بإذنه، ذاك تكليم بلا /واسطة، وهذا تكليمه بواسطة‏.‏

وإن قلت لما يبلغه المبلغ عن غيره‏:‏ هذا حكاية كلام ذلك، كان الإطلاق خطأ؛ فإن لفظ ‏[‏الحكاية‏]‏ إذا أطلق يراد به أنه أتى بكلام يشبه كلامه، كما يقال‏:‏ هذا يحاكي هذا، وهذا قد حكى هذا، لكن قد يقال‏:‏ فلان قد حكى هذا الكلام عن فلان، كما يقال‏:‏ رواه عنه، و بلغه عنه، ونقله عنه، وحدث به عنه؛ ولهذا يجىء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه‏.‏ فكل ما بلغه النبي صلى الله عليه وسلم عن الله فقد حكاه عنه، ورواه عنه‏.‏

فالقائل إذا قال للقارئ‏:‏ هذا يحكي كلام الله، أو يحكي القرآن، فقد يفهم منه أنه يأتي بكلام يحاكي به كلام الله، وهذا كفر‏.‏ وإن أراد أنه بلغه وتلاه فالمعنى صحيح، لكن ينبغي تعبيره بما لا يدل على معنى باطل، فيقول‏:‏ قرأه وتلاه، وبلغه وأداه؛ ولهذا إذا قيل‏:‏ يحكي القراءات السبع، ويرويها، وينقلها، لم ينكر ذلك؛ لأنه لا يفهم منه إلا تبليغها، لا أنه يأتي بمثلها‏.‏

/  فصــل

إذا تبين ذلك، فيقال‏:‏ هذا القرآن الذي نقرأه ونبلغه ونسمعه هو كلام الله الذي تكلم به، ونزل به منه روح القدس، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ‏}‏‏[‏النحل‏:‏ 98 ـ 103‏]‏، فهذا الكلام في القرآن الذي قالوا‏:‏ إنما يعلمه إياه بشر، وقد أبطل الله ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ‏}‏ فدل على أن المراد به نفس القرآن العربي، الذي يمتنع أن يعلمه إياه ذلك الأعجمي الذي ألحدوا إليه‏.‏ قد قيل‏:‏إنه رجل بمكة مولى لابن الحضرمي‏.‏ والمعاني المجردة لا يمتنع تعلمها من الأعجمي، بخلاف هذا القرآن العربي، فدل أن هذا القرآن نزله روح القدس من الله ـ تبارك وتعالى‏.‏

/ ومثله قوله تعالى في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ‏}‏‏[‏الأنعام‏:‏114‏]‏، وهذا الكلام صفة الله ـ تعالى ـ وأما ما اختص قيامه بنا، من حركاتنا وأصواتنا، وفهمنا وغير ذلك من صفاتنا، فلم يقم منه شيء بذات الله ـ سبحانه ـ كما أن ما اختص الرب ـ تعالى ـ بقيامه به لم ينتقل عنه، ولم يقم بغيره لا هو ولا مثله؛ فإن المخلوق إذا سمع من المخلوق كلامه وبلغه عنه كان ما بلغه هو كلامه، كما تقدم قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏نَضَّر الله امرأ سمع منا حديثًا، فبلغه كما سمعه‏)‏، مع أن ما قام بالنبي صلى الله عليه وسلم ـ بباطنه من العلم والإرادة وغيرهما، وبظاهره من الحركة والصوت وغيرهما ـ لم ينتقل عنه، ولم يقم بغيره، بل جميع صفات المخلوقين لا تفارق ذواتهم وتنتقل عنهم، فكيف يجوز أن يقال‏:‏ إن صفة الخالق فارقت ذاته فانتقلت عنه‏؟‏

والمتعلم إذا أخذ علم المعلم ونقله عنه لم يفارق ذات الأول،وينتقل عنها إلى الثاني، بل نفس الحقيقة العلمية حصلت له مثل مـا حصلت لمعلمه، أو ليس مثله بل يشبهه؛ ولهذا يشبه العلم بضوء السراج، كل أحد يقتبس منه وهو لم ينقص‏.‏ ومن المعلوم أن من أوقد من مصباح غيره فإنه لم ينتقل إلى سراجه شيء من جرم تلك النار، ولا شيء من صفاتها القائمة بها، بل جعل الله بسبب ملاصقة النار ذلك نارًا مثل تلك، / فالحقيقة النارية موجودة، وإن كانت هذه العين ليست تلك، لكن النار والعلم ليس هو مثل الكلام الذي يبلغ عن الغير، بل هو مثل أن يسمع بعض الناس كلام غيره، وشعر غيره، فيقول من جنس ما قال، ويقول كما قال غيره مثله، كما يقال‏:‏ وَقْع الخاطر على الخاطر كوقع الحافر على الحافر، وليس هذا من التبليغ والرواية في شيء، فإن قول القائل‏:‏

ألا كل شيء ما خلا الله باطل**

هو كلام لبيد كيفما أنشده الناس وكتبوه، فهذا الشعر الذي ينشده هو شعر لبيد بعينه‏.‏ فإذا قيل‏:‏ الشعر الذي قام بنا هو الذي قام بلبيد‏.‏ قيل‏:‏ إن أريد بذلك أن الشعر من حيث هو هو، إن أريد‏:‏ أن نفس ما قام بذاته فارق ذاته وانتقل إلينا، فليس كذلك، وكذلك إن أريد‏:‏ أن عين الصفة المختصة بذلك الشخص كحركته وصوته هي عين الصفة المختصة بنا، كحركتنا وصوتنا فليس كذلك‏.‏

فقولك‏:‏ هـذا هـو هذا، لفـظ فيه إجمـال يبيـنه السياق‏.‏ فـإذا قلت‏:‏ هذا الكلام هو ذاك، أو هذا الشعر هو ذاك، كنت صادقًا‏.‏ وإذا قلت‏:‏ هذا الصوت هو ذاك، كان كذبا‏.‏

والناس لا يقصدون، إذا قالوا‏:‏ هذا شعر لبيد، إلا القدر المتحد، / وهي الحقيقة من حيث هي، مع قصر النظر عما اختص به أحدهما‏.‏

فإن قيل‏:‏ القدر المتحد كلى مطلق، والكليات إنما توجد في الأذهان لا في الأعيان‏.‏ قيل‏:‏ ذكر هذا هنا غلط، فإن هذا إنما يقال لو كان رجل قد قال شعر لبيد من غير أن يعلم بشعره‏.‏ فنقول‏:‏ هذان شيئان اشتركا في النوع الكلي، وامتاز أحدهما عن الآخر بما يخصه، والكلى إنما يوجد كليًا في الذهن لا في الخارج، وأما هنا فنفس شعره كان له وجود في الخارج، والمقصود من الحقيقة الكلامية ـ مع قطع النظر عن صوت زيد وصوت عمرو ـ موجود لما تكلم به لبيد، وموجود إذا أنشده غير لبيد، وتلك الحقيقة المتحدة موجودة هنا وهنا، ليست مثل وجود الإنسانية في زيد وعمرو وخالد؛ فإن إنسانية زيد ليست إنسانية عمرو بل مثلها، والمشترك بينهما لا يوجد في الخارج، وهنا نفس الكلام الذي تكلم به لبيد تكلم به المنشد عنه، ولا يقال‏:‏ إنه أنشأ مثله، ولا أنشد مثله، بل يقال‏:‏ أنشد شعره بعينه‏.‏

لكن الشعر عَرَض،والعرض لا يقوم إلا بغيره، فلابد أن يقوم إما بلبيد وإما بغيره، والقائم به وإن كان ليس مثل القائم بغيره، لكن المقصود بهما واحد‏.‏ فالتماثل والتغاير في الوسيلة، والاتحاد في الحقيقة المقصودة، وتلك الحقيقة هي إنشاء لبيد لا إنشاء غيره، والعقلاء / يعلمون أنه ليس نفس الصوت المسموع من لبيد هو نفس الصوت المسموع من المنشد، لكن نفس المقصود بالصوت هو الكلام، فإن الصوت واسطة في تبليغه؛ ولهذا ما كان في الصوت من مدح وذم كان للمبلغ، وما كان في الكلام من مدح وذم كان للمتكلم المبلغ عنه في لفظه ونظمه ومعناه‏.‏

وإذا عرف هذا، فقول القائل‏:‏ هذا القرآن الذي نتلوه، القائم بنا حين التلاوة هو كلام الله الذي قام به حين تكلم به، وكان صفة له أم لا‏؟‏ قيل له‏:‏ أما الكلام فهو كلام الله لا كلامنا ولا غيرنا، وهو مسموع من المبلغ لا من الله ـ كما تقدم ـ وهو مسموع بواسطة سماعا مقيدًا، لا سماعاً من الله مطلقًا ـ كما تقدم ـ وليس شيء مما قام بذاته فارقه وانتقل إلينا،ولا شيء مما يختص بذواتنا ـ كحركاتنا وأصواتنا فهو منا ــ قائمًا به‏.‏

وأما قوله‏:‏ هذا القرآن الذي نتلوه القائم بنا حين التلاوة هو كلام الله، الذي قام به حين تكلم به‏؟‏ فلفظ ‏[‏القيام‏]‏ فيه إجمال؛ فإن أراد‏:‏أن نفس صفة الرب تكون صفة لغيره، أو صفة العبد تكون صفة للرب، فليس كذلك‏.‏ وإن أراد‏:‏ أن نفس ما ليس بمخلوق صار مخلوقًا، أو ما هو مخلوق صار غير مخلوق، فليس الأمر كذلك‏.‏وإن / أراد أن ما اختص الرب بقيامه به شاركه فيه غيره‏.‏ فليس الأمر كذلك‏.‏ وإن أراد‏:‏ أن نفس الكلام كلامه لا كلام غيره في الحالين ـ كما تقدم تقريره ـ فالأمر كذلك‏.‏

وقد علم أن الحال إذا سمع من الله ليس كالحال إذا سمع من خلقه، وذلك فرق بين الحالين، وإن كان الكلام واحدًا‏.‏ فإذا كان هذا الفرق ثابتًا في كلام المخلوق مسموعًا ومبلغًا عنه، فثبوته في كلام الله أولى وأحرى؛ فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، ولا يمكن أن يكون تكلمه به وسماعه مما يعرف له نظير ولا مثال، ولا يقاس ذلك بتكلم النبي صلى الله عليه وسلم، وسماع الكلام منه؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم بشر، يمكننا أن نعرف صفاته، والرب ـ تعالى ـ لا مثال له، وهو أبعد عن مماثلة المخلوقات أعظم من بعد مماثلة المخلوقات عن مماثلة أدناها‏.‏

وقول السائل‏:‏ إذا تلوناه، وقام بنا، يطلق عليه كلام الله وصفته أم يطلق عليه كلام الله دون صفته‏؟‏ أم في ذلك تفصيل يجب بيانه‏؟‏

فيقال‏:‏ هو كلام الله وصفته، مسموعًا من المبلغ عنه لا منه؛ فالنفي والإثبات بدون هذا التفصيل يوهم‏:‏ إما أنه كلام الله مسموعًا منه، أو أنه ليس كلام الله، بل كلام المبلغ عنه‏.‏ وكلا القولين خطأ وقع في كلام طائفتين من الناس؛ طائفة جعلت هذا كلام المبلغ عنه، لا كلام / الله‏.‏ وطائفة قالت‏:‏ هذا كلام الله مسموعًا من الله، ولم تفرق بين الحالين، حتى ادعى بعضها أن الصوت المسموع قديم، وتلك لم تجعله كلام الله، بل كلام الناس، فهؤلاء يقولون‏:‏ ليس هذا كلام الله، وأولئك يقولون‏:‏ هذا الصوت المسموع قديم‏.‏ وكلا القولين خطأ وضلال، لكن هو كلامه مقيدًا بواسطة المبلغ القارئ، ليس هو كلامه وصفته مطلقًا عن التقييد مسموعًا منه، وكلام المتكلم يضاف إليه مطلقًا إذا سمع منه، ومقيدًا إذا سمع من المبلغ عنه، كما أن رؤيته تقال‏:‏ مطلقة، إذا رؤى مباشرة‏.‏ وتقال‏:‏ مقيدة، إذا رؤى في ماء أو مرآة‏.‏

وأما قوله‏:‏ إذا قام بنا، هل كان منتقلا عن الله بعد أن قام به أم يكون قائمًا بنا وبه معًا‏؟‏ أم الذي قام بنا يكون عبارة عن كلام الله أو حكاية عنه‏؟‏ ويكون إطلاق كلام الله عليه مجازًا‏؟‏

فيقال‏:‏ إن صفة المخلوق لا تفارق ذاته، وتنتقل عنه وتقوم بغيره، فكيف يجوز أن يقال‏:‏ إن صفة الرب ـ سبحانه ـ فارقت ذاته، وانتقلت عنه وقامت بغيره‏.‏ وقد بينا أن المتكلم منا إذا أرسل غيره بكلام فإنه ما قام به، بل لم يفارق ذاته وينتقل إلى غيره، فكلام الله أولى وأحرى، بل كلامه ـ سبحانه ـ قائم به، كما يقوم به لو تكلم به ولم يرسل به رسولا، فإرساله رسولا به يفيد إبلاغه إلى الخلق، وإنزاله إليهم / لا يوجب نقصًا في حق الرب، ولا زوال اتصافه به، ولا خروجه عن أن يكون كلامه، بل نعلم أن الرب كما أنه قد يتكلم به، ولا يرسل به رسولاً قد يتكلم به ويرسل به رسولا، فهو ـ سبحانه ـ في الحالين كلامه، بل إرسال الرسول به نفع الخلق، وهداهم، ولم يجب به نقصان صفة مولاهم‏.‏

وقوله‏:‏أم يكون قائمًا بنا وبه‏؟‏ فيقال‏:‏ معنى ‏[‏القائم‏]‏ لفظ مجمل؛ فإن أريد أن نفس الكلام من حيث هو هو تكلم هو به، وتكلمنا به مبلغين له عنه، فكذلك هو‏.‏ وإن أريد‏:‏أن ما اختص به يقوم بنا، أو ما اختص بنا يقوم به، فهذا ممتنع‏.‏ وإن أريد بالقيام‏:‏ أنا بلغنا كلامه، أو قرأنا كلامه، أو تلونا كلامه، فهذا صحيح، فكذلك إن أريد‏:‏أن هذا الكلام كلامه مسموعًا من المبلغ لا منه‏.‏ وإن أريد بالقيام‏:‏ أن الشيء الذي اختص به هو بعينه قام بغيره مختصًا به، فهذا ممتنع‏.‏وإن قيل‏:‏ الصفة الواحدة تقوم بموضعين‏.‏ قيل‏:‏ هذا ـ أيضًا ـ مجمل؛ فإن أريد أن الشيء المختص بمحل يقوم بمحل آخر فهذا ممتنع، وإن أريد‏:‏ أن الكلام الذي يسمى صفة واحدة يقوم بالمتكلم به ويبلغه عنه غيره، كان هذا صحيحًا‏.‏

فهذه المواضع يجب أن تفسر الألفاظ المجملة بالألفاظ المفسرة المبينة، وكل لفظ يحتمل حقًا وباطلا فلا يطلق إلا مبينًا به المراد الحق دون / الباطل، فقد قيل‏:‏ أكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء‏.‏ وكثير من نزاع الناس في هذا الباب هو من جهة الألفاظ المجملة، التي يفهم منها هذا معنى يثبته، ويفهم منها الآخر معنى ينفيه‏.‏ ثم النفاة يجمعون بين حق وباطل، والمثبتة يجمعون بين حق وباطل‏.‏

وأما قـوله‏:‏ أم الـذي يقوم بنا يكـون عبارة عن كلام الله أو حكاية عنه، ويكون إطلاق كلام الله عليه مجازًا‏؟‏ فيقال‏:‏ العبارة عن كلام الغيب يقال لمن في نفسه معـنى ثم يعبر عنه غيره‏.‏ كما يعبر عما في نفس الأخرس من فهم مراده، والذين قالوا‏:‏ ‏[‏القرآن عبارة عن كلام الله‏]‏ قصدوا هذا، وهذا باطل، بل القرآن العربي تكلم الله به، وجبريل بلغه عنه‏.‏

وأما ‏[‏الحكاية‏]‏ فيراد بها ما يماثل الشيء، كما يقال‏:‏ هذا يحاكي فلانًا‏:‏ إذا كان يأتي بمثل قوله أو عمله، وهذا ممتنع في القرآن، فإن الله ـ تعالى ـ يقول‏:‏ ‏{‏قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ‏}‏الآية ‏[‏الإسراء‏:‏88‏]‏‏.‏ وقد يقال‏:‏ فلان حكى فلان عنه، أي بلغه عنه، ونقله عنه، ويجيء في الحديث‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيما يحكي عن ربه، ويقال‏:‏ إن النبي صلى الله عليه وسلم روى عن ربه‏.‏ وحكى عن ربه‏.‏ فإذا قيل‏:‏ إنه حكى عن الله، بمعنى أنه بلغ عن الله، فهذا صحيح‏.‏

/وأما قول القائل‏:‏ هل يكون كلام الله مجازًا‏؟‏ فيقال‏:‏ علامة المجاز صحة نفيه، ونحن نعلم بالاضطرار أن فلانًا لو قال بحضرة الرسول‏:‏ ليس هذا كلام الله، لكان عنده لم يكن متكلمًا بالحقيقة اللغوية‏.‏

وأيضًا، فهذا موجود في كل من بلغ كلام غيره، أنه يقال‏:‏ هذا كلام المبلغ عنه، لا كلام المبلغ، والله أعلم‏.‏

/ ما تقول السادة أئمة الدين في رجلين قال أحدهما‏:‏ القرآن المسموع كلام الله‏.‏ وقال الآخر‏:‏ هو كلام جبرائيل، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ‏}‏‏[‏الحاقة‏:‏ 40‏]‏، فهل أصاب أم أخطأ‏؟‏ وما الجواب عما احتج به‏؟‏ وهل هذا القول قاله أحد من الشيوخ والأئمة أم لا‏؟‏ أفتونا مأجورين‏.‏

فأجاب شيخ الإسلام ابن تيمية ـ قدس الله روحه‏:‏

الحمد لله رب العالمين، بل القرآن كلام الله ـ تعالى ـ وليس كلام جبرائيل، ولا كلام محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا متفق عليه بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وأئمة المسلمين وأصحابهم، الذين يفتى بقولهم في الإسلام كأبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، وغيرهم‏.‏

وجبريل سمعه من الله، وسمعه محمد من جبريل، كما قال تعالى‏:‏‏{‏قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ‏}‏‏[‏النحل‏:‏102‏]‏‏.‏ وروح القدس هو جبريل، وقال تعالى‏:‏‏{‏وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ ‏}‏‏[‏الأنعام‏:‏114‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ‏}‏‏[‏الزمر‏:‏1‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏حم تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ‏}‏‏[‏غافر‏:‏1، 2‏]‏ فهو منزل من الله، كما قال / تعالى‏:‏‏{‏نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ‏}

‏[‏الشعراء‏:‏ 193ـ 195‏]‏‏.‏

وأما قوله تعالى‏:‏‏{‏نَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ‏}‏فإنه أضافه إليه؛ لأنه بلَّغه وأدَّاه لا لكونه أحدث منه شيئًا وابتداه؛ فإنه ـ سبحانه ـ قال في إحدى الآيتين‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ

وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏40ـ43‏]‏، فالرسول هنا محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقال في الآية الأخرى‏:‏‏{‏إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏19ـ21‏]‏‏.‏ فالرسول هنا جبريل، والله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس، فلو كانت إضافته إلى أحدهما لكونه ألف النظم العربي، وأحدث منه شيئًا غير ذلك تناقض الكلام؛ فإنه إن كان نظم أحدهما لم يكن نظم الآخر‏.‏

وأيضًا، فإنه قال‏:‏‏{‏لَقَوْلُ رَسُولٍ‏}‏ولم يقل‏:‏ لقول ملك ولا نبي، ولفظ ‏[‏الرسول‏]‏ يشعر بأنه مبلغ له عن مرسله، لا أنه أنشأ من عنده شيئًا‏.‏

وأيضًا، فقوله‏:‏‏{‏نَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ‏}‏ ضمير يعود إلى القرآن، / والقرآن يتناول معانيه ولفظه، ومجموع هذا ليس قولا لغير الله بإجماع المسلمين، وإطلاق القول بأن القرآن كلام جبريل أو محمد أو غيرهما من المخلوقين، كفر لم يقله أحد من أئمة المسلمين، بل عظم الله الإنكار على من يقول‏:‏ إنه قول البشر، فقال تعالى‏:‏‏{‏ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا وَبَنِينَ شُهُودًا وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ ‏}

‏[‏المدثر‏:‏11-27‏]‏‏.‏ فمن قال‏:‏ إن القرآن قول البشر، فقد كفر، وكذلك من قال‏:‏ إنه قول ملك‏.‏

وإنما يقول‏:‏ إنه قول جبريل أحد رجلين‏:‏

إما رجل من الملاحدة والفلاسفة، الذين يقولون‏:‏ إنه فيض فاض على نفس النبي من العقل الفعال، ويقولون‏:‏ إنه جبريل‏.‏ ويقولون‏:‏ إن جبريل هو الخيال الذي يتمثل في نفس النبي صلى الله عليه وسلم، يقولون‏:‏ إنه تلقاه معان مجردة، ثم إنه تشكل في نفسه حروفًا كما يتشكل في نفس النائم، كما يقول ذلك ابن عربي صاحب ‏[‏الفصوص‏]‏ وغيره من الملاحدة؛ ولهذا يدعى أنه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك، الذي يوحى به إلى الرسول، فإن ‏[‏المعدن‏]‏ عنده هو العقل، و‏[‏الملك‏]‏ هو الخيال الذي في نفسه، والنبي عندهم يأخذ من هذا الخيال‏.‏ / وهذا الكلام من أظهر الكفر بإجماع المسلمين واليهود والنصارى، وهو مما يعلم فساده بالاضطرار من دين المسلمين‏.‏

أو رجل ينتسب إلى مذهب الأشعري، ويظن أن هذا قول الأشعري؛ بناء على أن الكلام العربي لم يتكلم الله به عنده، وإنما كلامه معنى واحد قائم بذات الرب، هو الأمر والخبر، إن عبر عنه بالعربية كان قرآنًا، وإن عبر عنه بالعبرانية كان توراة، وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلا، وهذا القول، وإن كان قول ابن كلاب والقلانسي، والأشعري ونحوهم، فلم يقولوا‏:‏ إن الكلام العربي كلام جبريل، ومن حكي هذا عن الأشعري نفسه فهو مجازف، وإنما قال طائفة من المنتسبين إليه ـ كما قالت طائفة أخرى ـ‏:‏ إنه نظم محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن المشهور عنه‏:‏ أن الكلام العربي مخلوق، ولا يطلق عليه القول بأنه كلام الله، لكن إذا كان مخلوقًا، فقد يكون خلقه في الهواء، أو في جسم، لكن القول إذا كان ضعيفًا ظهر الفساد في لوازمه‏.‏

وهذا القـول ـ أيضًا ـ لم يقله أحــد من الصحـابة والتابعين، وأئــمة المسلمين وأصحابهم، الذين يفتى بقولهم، بل كان الشيخ أبو حامد الأسفرائيني يقول‏:‏ مذهبي، ومذهب الشافعي، وأحمد بن حنبل، وسائر علماء الأمصار في القرآن مخالف لهذا القول، وكذلك أبو محمد الجويني ـ والد أبي / المعالي ـ قال‏:‏مذهب الشافعي وأصحابه في الكلام ليس هو قول الأشعري، وعامة العقلاء يقولون‏:‏ إن فساد هذا القول معلوم بالاضطرار، فإنا نعلم أن التوراة إذا عربت لم تكن هي القرآن، ونعلم أن آية الكرسي ليست هي معنى آية الدَّيْن‏.‏

والله ـ تعالى ـ قد فرق في كتابه بين تكليمه لموسى وإيحائه إلى غيره، بقوله تعالى‏:‏‏{‏إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ‏}‏إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا‏}‏‏[‏النساء‏:‏163، 164‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ‏}‏‏[‏الشورى‏:‏51‏]‏، ففرق بين التكليم الذي حصل لموسى، وبين الإيحاء المشترك، وموسى سمع كلام الله من الله بلا واسطة، كما قال تعالى‏:‏‏{‏وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي‏}

‏[‏طه‏:‏13، 14‏]‏‏.‏

والرسول إذا بلغه إلى الناس وبلغه الناس عنه كان مسموعًا سماعًا مقيدًا بواسطة المبلغ، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏6‏]‏، فهو مسموع مبلغ عنه بواسطة المخلوق، بخلاف سماع موسى صلى الله عليه وسلم، وإن كان العبد يسمع كلام الرسول من المبلغين عنه، فليس ذلك كالسماع منه، فأمر الله ـ تعالى ـ أعظم‏.‏

/ ولهذا اتفق سلف الأمة وأئمتها على أن القرآن الذي يقرؤه المسلمون كلام الله - تعالى ـ ولم يقل أحد منهم‏:‏ إن أصوات العباد ولا مداد المصاحف قديم، مع اتفاقهم على أن المثبت بين لوحي المصحف كلام الله، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏زينوا القرآن بأصواتكم‏)‏، فالكلام الذي يقرؤه المسلمون كلام الله، والأصوات التي يقرؤون بها أصواتهم‏.‏ والله أعلم‏.‏

/  وسئل ـ رحمه الله‏:‏

ما تقول السادة العلماء الجهابذة أئمة الدين ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ فيمن يقول‏:‏ الكلام غير المتكلم، والقول غير القائل، والقرآن والمقروء والقارئ كل واحد منها له معنى‏؟‏ بينوا لنا ذلك بيانًا شافيًا؛ ليصل إلى ذهن الحاذق والبليد، أثابكم الله بمنه‏؟‏‏.‏

فأجاب ـ رضي الله عنه‏:‏

الحمد لله، من قال‏:‏ إن الكلام غير المتكلم، والقول غير القائل، وأراد أنه مباين له ومنفصل عنه فهذا خطأ وضلال، وهو قول من يقول‏:‏ إن القرآن مخلوق؛ فإنهم يزعمون أن الله لا يقوم به صفة من الصفات، لا القرآن ولا غيره، ويوهمون الناس بقولهم‏:‏ العلم غير العالم والقدرة غير القادر، والكلام غير المتكلم، ثم يقولون‏:‏ وما كان غير الله فهو مخلوق، وهذا تلبيس منهم‏.‏

فإن لفظ ‏[‏الغير‏]‏ يراد به ما يجوز مباينته للآخر ومفارقته له، وعلى هذا فلا يجوز أن يقال‏:‏ علم الله غيره، ولا يقال‏:‏ إن الواحد / من العشرة غيرها، وأمثال ذلك، وقد يراد بلفظ ‏[‏الغير‏]‏ ما ليس هو الآخر، وعلى هذا فتكون الصفة غير الموصوف، لكن على هذا المعنى لا يكون ما هو غير ذات الله الموصوفة بصفاته مخلوقًا؛ لأن صفاته ليست هي الذات، لكن قائمة بالذات، والله ـ سبحانه وتعالى ـ هو الذات المقدسة الموصوفة بصفات كماله، وليس الاسم اسمًا لذات لا صفات لها، بل يمتنع وجود ذات لا صفات لها‏.‏

والصواب في مثل هذا أن يقال‏:‏ الكلام صفة المتكلم، والقول صفة القائل، وكلام الله ليس باينا منه، بل أسمعه لجبريل، ونزل به على محمد صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى ‏{‏أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏114‏]‏، ولا يجوز أن يقال‏:‏ إن كلام الله فارق ذاته، وانتقل إلى غيره، بل يقال كما قال السلف‏:‏ إنه كلام الله غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود‏.‏ فقولهم‏:‏‏[‏منه بدأ‏]‏ رد على من قال‏:‏ إنه مخلوق في بعض الأجسام، ومن ذلك المخلوق ابتدأ‏.‏ فبينوا أن الله هو المتكلم به‏[‏ منه بدأ‏]‏ لا من بعض المخلوقات ‏[‏وإليه يعود‏]‏ أي‏:‏ فلا يبقى في الصدور منه آية، ولا في المصاحف حرف، وأما القرآن فهو كلام الله‏.‏

فمن قال‏:‏ إن القرآن الذي هو كلام الله غير الله فخطؤه وتلبيسه كخطأ من قال‏:‏ إن الكلام غير المتكلم‏.‏ وكذلك من قال‏:‏ إن كلام / الله له مقروء غير القرآن الذي تكلم به فخطؤه ظاهر، وكذلك من قال‏:‏ إن القرآن الذي يقرؤه المسلمون غير المقروء الذي يقرؤه المسلمون، فقد أخطأ‏.‏

وإن أراد بـ ‏[‏القرآن‏]‏ مصدر قرأ يقرأ قراءة وقرآنًا، وقال‏:‏ أردت أن القراءة غير المقروء،، فلفظ القراءة مجمل، قد يراد بالقراءة القرآن، وقد يراد بالقراءة المصدر، فمن جعل ‏[‏القراءة‏]‏ التي هي المصدر غير المقروء، كما يجعل التكلم الذي هو فعله غير الكلام الذي هو يقوله، وأراد بالغير أنه ليس هو إياه، فقد صدق، فإن الكلام الذي يتكلم به الإنسان يتضمن فعلا كالحركة، ويتضمن ما يقترن بالفعل من الحروف والمعاني؛ ولهذا يجعل القول قسيمًا للفعل تارة، وقسما منه أخرى‏.‏

فالأول كما يقول‏:‏ الإيمان قول وعمل، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏‏(‏إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل به‏)‏، ومنه قوله تعالى‏:‏‏{‏إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ‏}‏‏[‏فاطر‏:‏10‏]‏، ومنه قوله تعالى‏:‏‏{‏وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ‏}‏‏[‏يونس‏:‏61‏]‏، وأمثال ذلك مما يفرق بين القول والعمل‏.‏ وأما دخول القول في العمل، ففي مثل قوله تعالى‏:‏‏{‏فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏92، 93‏]‏‏.‏ وقد فسروه بقول‏:‏ لا إله إلا الله، ولما / سئل صلى الله عليه وسلم‏:‏ أي الأعمال أفضل‏؟‏ قال‏:‏ ‏[‏الإيمان بالله‏)‏ مع قوله‏:‏ ‏(‏الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول‏:‏ لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق‏)‏ ونظائر ذلك متعددة‏.‏

وقد تنوزع فيمن حلف لا يعمل عملا، إذا قال قولا كالقراءة ونحوها، هل يحنث‏؟‏ على قولين في مذهب أحمد وغيره، بناء على هذا‏.‏

فهذه الألفاظ التي فيها إجمال واشتباه إذا فصلت معانيها، وإلا وقع فيها نزاع واضطراب، والله ـ سبحانه وتعالى ـ أعلم‏.‏

/ وسئل‏:‏

هل نفس المصحف هو نفس القرآن، أم كتابته‏؟‏ وما في صدور القراء هل هو نفس القرآن أو حفظه‏؟‏

فأجاب‏:‏

الواجب أن يطلق ما أطلقه الكتاب والسنة، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ‏}‏‏[‏البروج‏:‏21، 22‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏77ـ79‏]‏، وقوله‏:‏‏{‏وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَّنشُورٍ‏}‏‏[‏الطور‏:‏1ـ3‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ‏}‏ ‏[‏البينة‏:‏2، 3‏]‏، وقوله تعالى‏:‏‏{‏كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء ذَكَرَهُ فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ ‏}‏‏[‏عبس‏:‏11ـ16‏]‏‏.‏

وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏‏(‏لا يسافر بالقرآن إلى أرض العدو‏)‏، وقوله‏:‏ ‏(‏استذكروا القرآن، فَلَهُوَ أَشد تَفَصِّيًا من صدور الرجال من النَّعَم في عُقُلِها‏)‏ وكلاهما في الصحيحين، وقوله‏:‏ ‏(‏الجوف الذي ليس فيه شيء من القرآن كالبيت الخَرِب‏)‏ قال الترمذي‏:‏ حديث صحيح‏.‏

/ فمن قال‏:‏ القرآن في المصاحف والصدور، فقد صدق‏.‏ ومن قال‏:‏ فيها حفظه وكتابته، فقد صدق‏.‏ ومن قال‏:‏ القرآن مكتوب في المصاحف محفوظ في الصدور، فقد صدق‏.‏ ومن قال‏:‏ إن المداد أو الورق، أو صفة العبد أو فعله، أو حفظه وصوته قديم، أو غير مخلوق، فهو مخطئ ضال‏.‏ ومن قال‏:‏ إنما في المصحف ليس هو كلام الله، أو ما في صدور القراء ليس هو كلام الله، أو قال‏:‏ إن القرآن العزيز لم يتكلم به الله، ولكن هو مخلوق، أو صنفه جبريل أو محمد، وقال‏:‏ إن القرآن في المصاحف، كما أن محمدًا في التوراة والإنجيل، فهو أيضًا مخطئ ضال‏.‏

فإن القرآن كلام، والكلام نفسه يكتب في المصحف، بخلاف الأعيان؛ فإنه إنما يكتب اسمها وذكرها،فالرسول مكتوب في التوراة والإنجيل ذكره ونعته، كما أن القرآن في زبر الأولين، وكما أن أعمالنا في الزبر، قال تعالى‏:‏‏{‏وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ‏}‏‏[‏الشعراء‏:‏ 196‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏52‏]‏، ومحمد مكتوب في التوراة والإنجيل، كما أن القرآن في تلك الكتب، وكما أن أعمالنا في الكتب، وأما القرآن فهو نفسه مكتوب في المصاحف، ليس المكتوب ذكره والخبر عنه، كما يكتب اسم الله في الورق، ومن لم يفرق بين كتابة الأسماء والكلام، وكتابة المسميات والأعيان ـ كما جرى لطائفة من الناس ـ فقد غلط غلطًا سَوَّى فيه بين الحقائق المختلفة، كما قد /يجعل مثل هؤلاء الحقائق المختلفة شيئًا واحدًا، كما قد جعلوا جميع أنواع الكلام معنى واحدًا‏.‏

وكلام المتكلم يسمع تارة منه، وتارة من المبلغ، فالنبي صلى الله عليه وسلم لما قال‏:‏ ‏(‏إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها، فهـجرته إلـى ما هاجر إليه‏)‏ ـ فهذا الكلام قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم بلفظه ومعناه؛ فلفظه لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم، ومعناه معنى الرسول، فإذا بلغه المبلغ عنه بلغ كلام الرسول بلفظه ومعناه؛ ولكن صوت الصحابي المبلغ ليس هو صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

فالقرآن كلام الله، لفظه ومعناه، سمعه منه جبريل، وبلغه عن الله إلى محمد، ومحمد سمعه من جبريل وبلغه إلى أمته، فهو كلام الله حيث سمع وكتب وقرئ، كما قال تعالى‏:‏‏{‏وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏6‏]‏‏.‏

وكلام الله تكلم الله به بنفسه، تكلم به باختياره وقدرته، ليس مخلوقًا بائنًا عنه، بل هو قائم بذاته، مع أنه تكلم به بقدرته ومشيئته، ليس قائمًا بدون قدرته ومشيئته‏.‏

/والسلف قالوا‏:‏ لم يزل الله ـ تعالى ـ متكلمًا إذا شاء‏.‏ فإذا قيل‏:‏ كلام الله قديم، بمعنى أنه لم يصر متكلمًا بعد أن لم يكن متكلمًا، ولا كلامه مخلوق، ولا معنى واحد قديم قائم بذاته، بل لم يزل متكلمًا إذا شاء ـ فهذا كلام صحيح‏.‏

ولم يقل أحد من السلف‏:‏ إن نفس الكلام المعين قديمًا، وكانوا يقولون‏:‏ القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، ولم يقل أحد منهم‏:‏ إن القرآن قديم، ولا قالوا‏:‏ إن كلامه معنى واحد قائم بذاته، ولا قالوا‏:‏ إن حروف القرآن أو حروفه وأصواته قديمة أزلية قائمة بذات الله، وإن كان جنس الحروف لم يزل الله متكلمًا بها إذا شاء، بل قالوا‏:‏ إن حروف القرآن غير مخلوقة، وأنكروا على من قال‏:‏ إن الله خلق الحروف‏.‏

وكان أحمد وغيره من السلف ينكرون على من يقول‏:‏ لفظي بالقرآن مخلوق أو غير مخلوق‏.‏ يقولون‏:‏ من قال‏:‏ هو مخلوق، فهو جهمي، ومن قال‏:‏ غير مخلوق، فهو مبتدع؛ فإن ‏[‏اللفظ‏]‏ يراد به مصدر لفظ يلفظ لفظًا، ويراد باللفظ الملفوظ به، وهو نفس الحروف المنطوقة، وأما أصوات العباد ومداد المصاحف فلم يتوقف أحد من السلف في أن ذلك مخلوق، وقد نص أحمد وغيره على أن صوت القارئ صوت العبد، وكذلك غير أحمد من الأئمة‏.‏ وقال أحمد‏:‏ من / قال‏:‏ لفظي بالقرآن مخلوق ـ يريد به القرآن ـ فهو جهمي؛ فالإنسان وجميع صفاته مخلوق، حركاته وأفعاله وأصواته مخلوقة، وجميع صفاته مخلوقة، فمن قال عن شىء من صفات العبد‏:‏ إنها غير مخلوقة أو قديمة، فهو مخطئ ضال، ومن قال عن شىء من كلام الله أو صفاته‏:‏ إنه مخلوق، فهو مخطئ ضال‏.‏

وأما أصوات العباد بالقرآن، والمداد الذي في المصحف، فلم يكن أحد من السلف يتوقف في ذلك، بل كلهم متفقون أن أصوات العباد مخلوقة، والمداد كله مخلوق، وكلام الله الذي يكتب بالمداد غير مخلوق، قال الله تعالى‏:‏‏{‏قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏109‏]‏‏.‏

وهذه المسائل قد بسط الكلام عليها، وذكر أقوال الناس واضطرابهم فيها في مواضع أخر‏.‏